الأحد، 8 يناير 2012

رحلة كرسى الزمن الحلقة الأولى "المذكرات"


رحلة كرسى الزمن

الحلقة الأولى
"المذكرات"
إستيقظت من نومى يوم الجمعة 13 مايو 1983 على صوت أمى ، لأذهب لجدتى فى "ميدان تريومف"  ، أعطيها الكيكة التى خبزتها أمى بالأمس على طريقة جدتى و فعلاً قمت سريعاً ، إرتديت ملابسى و أخذت الدراجة المتميزة ذات السرعات المتعددة ، و التى إشتراها لى أبى من محلات "خريستو" فى الكوربة عند نجاحى فى الإبتدائية . وضعت الكيكة فى صندوق قامت والدتى بشراءه من بورسعيد لدراجتى ، لنضع فيه ما نحتاجه ، كانت الشوارع هادئة و لا يوجد زحام ، كانت "مصر الجديدة" منطقة راقية و نظيفة ، ترى السيدات الجميلات يقمن بالتريض فى حدائق "أرض الجولف" ، و يسيروا صباحاً فى طريق المطار ، كان الجو يسمح للكل بالتحرك كما لو كنا فى شياكة أوروبا الراقية ، لا تسمع لفظ نابي  و لا معاكسة بذئية ، و لا شئ من هذا كله ، كان هناك أمان يحيط بالأجواء .
وصلت إلى منزل جدتى و هى صاحبة العمارة التى بناها جدى رحمه الله فقد كان مهندس و كانت جدتى تفخر بأن تتحدث عنه فقد كانت تعشقه بشدة و كنت أستمع لأحاديثها عنه ثم سمعت عنه الكثير من خلال أحد أقاربه و هو إبن عمه ، حتى تمنيت أن ألقاه .
كانت جدتي قد أعدت جلسة فاخرة فى الفراندة لإستقبالى حيث قامت بتحضير الطقم الصينى الخاص بالشاى و قامت بتحضير أطباق للكيك . و بعد الترحيب و جهتنى للحمام لأغسل يدى كنت أفعل هذا دون أن يطلب منى و لكنني كنت أحب أن تقول لي ذلك فاشعر بمدى نظافة تلك السيدة الجميلة الطيبة ، عدت من الحمام و جلست على الكرسى المواجه لمقعد جدتى كانت الفراندة بها زرع فى كل أنحاءها و هو أمر ورثته أمي عن جدتي و كانت جدتى تضع للطيور غذاء و مياه فى كل مكان و لا تتوقعوا أنها طيور داخل اقفاص بل تضع حبوب للطيور التى فى الخارج و التى شعرت بالأمان و كانت تاتى  للفراندة تلتقط الحبوب المنثورة على الأرض و تشرب المياه من الأوانى المخصصة لها دون ان تقترب من زرع جدتى كما لو كانت قد عقدت إتفاقية غير مكتوبة معهم مضمونها أعطيكم الطعام و الشراب و لا تأكلوا زرعي ، قامت جدتي بتقطيع الكيك و وضعت قطعة لى فى طبق تناولته منها و معه فنجان الشاي و في أثناء ذلك كانت تعرفنى بالطيور فذلك الكروان و تلك اليمامة و هؤلاء العصافير الزائردة و هو إسم أخذته منها اطلقته على العصافير الصغيرة التى تاكل و لا يبدو عليها الأكل ثم إنتقل الحوار للدراسة و ماذا أريد ان أعمل حين أكبر كانت ترغب فى أن أكون مهندس مثل جدى و كنت لا أرى مانع في ذلك إذا كنت سأكون مهندس طيران فانا أعشق السفر و الترحال و إذا لم يكن فأريد دراسة الفن فإن لم يكن فأرغب فى الكتابة كنت وقتها مراسل ل"مجلة ماجد" و لهذا قصص كثيرة سيأتى وقتها فيما بعد ، كانت علاقتى بجدتى افضل ما يكون فكانت بالنسبة لى رمز "الليدى" السيدة المحترمة التى يرغب الكل فى الحديث معها تلك السيدة المهذبة التى يحترمها الكل و كان أبى يعشقها و هى تبادله نفس المشاعر و لا تفعل معه مثلما تفعل "الحماوات الفاتنات" بل كانا دائماً يتبادلا الحديث الطيب و بدأنا معاودة الحديث حول قصة "الغرفة المغلقة" و التى بها كل مقتنيات جدى من الأدوات الهندسية و الكتب النادرة و المكتب و كرسيه و "الكرسى الهزاز" الذى كان يفضله للراحة و هو يقرا أحد كتبه ، و هناك بعض المقنيات الأخرى الثمينة منها "البايب" الخاص به و التى اعطتنى إياه جدتى و الذى ظللت محافظاً عليه .
كانت رغبتى الدائمة فى أن أتجول فى تلك الغرفة التى أسميتها "غرفة الأسرار" نظراً لأنها لم تُترك مفتوحة أبداً أمام أى أحد على عكس باقى الغرف و حينما سألت جدتى فى إحدى المرات عن ذلك قالت لى إن الغرفة بها "سر خطير" ربما سأعرفه في يوماً ما ، كان ذهنى يعمل منذ قالت لى جدتى تلك الكلمة و أفكر ماذا فى تلك الغرفة ؟ و متى سيمكننى معرفة ذلك السر ؟ و بطبيعة تركيبتي الشخصية كنت أحب كشف الأسرار و إستكشاف الأمور بحيث لا أترك شيئاً دون أن أصل لحقيقته ، ربما بحاسة الصحفي الصغير في "مجلة ماجد" و التي كانت جدتي تحتفظ بالعدد الأول لتلك المجلة و كذلك العدد الذي تم نشر صورتى فيه كمندوب صحفى للمجلة فى القاهرة و الذى ساعدنى فى ذلك كان أبى من خلال معرفته بإدارة المجلة فى الإمارات حيث كان يسافر مرات عديدة فى مهام خاصة بين مصر و الإمارات فلم تكن المجلة منتشرة وقتها فى مصر .
و بعد الأحاديث المتعددة حيث كان الحديث مع جدتى شيق فلديها من الحكايات ما لا يجعلك تمل الجلوس معها بل ترغب فى أن تمتد الجلسة لساعات و لا تنتهى ، و لكن لأن عندى واجبات يجب الإنتهاء منها إضطررت للإستئذان و الإنصراف بعدما أعطتنى طبق به نوع من الحلوى التى تصنعها و التى يعشقها كلاً من "أمى"إبنتها و زوج إبنتها "أبى" و إنصرفت و عدت إلى المنزل و بعد الإنتهاء من واجباتي المنزلية التي كانت عبارة عن تحضير لدروس الأسبوع القادم كانت أمي تقرا في إحدى كتبها المتخصصة في "الفيزياء الذرية" فإقتربت منها بهدوء سائلاً إياها :
- حضرتك بتعرفي فى الفيزياء و الكيمياء و الجبر و كل حاجة حضرتك شاطرة ، ليه أنا بليد ؟
- لا يا حبيبي أنت شاطر بس أنت بتحب الأدب اكتر من العلوم و ده برضوا كويس ، كل واحد لازم يكون متميز فى حاجة بيحبها ، المهم خلصت دروس الأسبوع الجاى و ألا لسه ؟
- طبعاً خلصتها و حضرت كمان للأسبوع اللى بعد الجاى .
- شاطر ، كده تقدر لو عايز تنزل شويه تروح النادى روح .
- متشكر يا ماما بس كنت عايز قبل ما أنزل استأذن فى حاجة .
- إتفضل يا حبيبى عايز زيادة فى المصروف ؟
- لا يا ماما ميرسيه ، أنا كنت عايز أطلب منك إنى أقرا يوميات جدى اللى عندك .
- بس ديه يوميات علمية فى "الفيزياء الذرية" يعنى مش سهلة ، حتى على المتخصصين بتكون صعبة ، يعنى عايزة حد متخصص جوه التخصص و بعدين حضرتك عايزها ليه ؟
- أبداً أصل كل لما باروح ل"تيتة" و أشوف "غرفة الأسرار" بأبقى نفسي أعرف إيه اللي فيها ؟
- "غرفة الأسرار" ؟
- ايوه ، "أوضة جدى" فى شقة تيتة اللى على طول مقفولة و تيتة قالتلى إن فيها "سر خطير" و قالتلى يمكن فى يوم أعرف إيه اللى فيها قلت يمكن السر اللى فى الأوضة موجود فى المذكرات .
- شوف يا حبيبى كل اللى اوعدك بيه إنك لو طلعت من العشرة الأوائل السنة دى أخليك تقرا المذكرات و إنت قاعد جنبى لإنى مش حأقدر أسيبهالك لإن فعلاً حسب ما قريت ، فيها سر خطير بس لسة ما وصلتلوش يمكن حضرتك تقدر توصل له .
تركت "أمى" و ذهبت ل"أبى" ليقوم بإيصالى للنادى بسيارته لإن الوقت تأخر و لا يسمح لى بالذهاب بالدراجة للنادى ، و نحن فى السيارة قلت لأبى :
-        بابا ممكن أطلب من حضرتك حاجة ؟
-        أكيد أطلب بس بيتهيالى حتقولى على هدية النجاح السنة دى؟
-        موافق نخلى طلبى يكون هدية نجاحى السنة دى ، عايز أدخل "غرفة الأسرار" .
-        "غرفة الأسرار" ؟ ! ! ! قالها والدى متعجباً .
-        أيوه "غرفة الأسرار" .
-        دي فى "السندباد" و ألا "ملاهى أدهم" ؟
-        لا يا بابا ديه فى بيت تيتة .
-        بيت تيتة فيه "غرفة أسرار" ؟
-        ده الإسم اللى سميت بيه أوضة جدى .
-        ههههههه طيب ليه سميتها كده ؟
-        تيتة بتقول فيها سر كبير و يمكن أعرفه فى يوم من الأيام .
-        شوف يا "سمير" جدك كان بيشتغل على تجارب كتيرة و اللى أنا عارفه إن الأوضة دي فيها شغله كله و حتى ماما نفسها ما بتدخلهاش فأفتكر إنك تدخلها ده موضوع صعب شوية لو ما قلناش إنه يوصل لدرجة الإستحالة يعنى حضرتك ممكن تطلب منى أوديك "غرفة أسرار السندباد" ماشى لكن "غرفة أسرار جدك" ديه مش تبعى معلش .
-        ديه تيتة قالتلى يمكن أدخلها فى يوم من الأيام .
-        طيب كده يبقى ممكن أكلم تيتة فى الموضوع ده .
كنا قد وصلنا النادي و سحبت دراجتي من شبكة السيارة لألعب بها فى ممر الدراجات بالنادي و كنت في ذلك الوقت لدى مجموعة كبيرة من الأصدقاء و الصديقات بعضهم زملاء الدراسة و البعض الأخر أصدقاء النادي فقط ، و كانت هناك "جيرمين" الصديقة المقربة لي و "جيرمين" لمن لا يعرفها كانت تقوم بممارسة كافة أنواع الرياضات و لكنها كانت تفضل الكاراتيه عن غيره و كانت صديقة ككل الصديقات نمارس الرياضة و نجلس لنشاهد فيلم في "المبنى الاجتماعي" و كان هناك "فوزي" و كان دائم العصبية و لا يترك أي موضوع يمر بسهولة بل لا بد من أن يفتعل شئ ليظل يتحدث عما فعله و بطولته و كنت أخذ الأمور ببساطة و أتقبل ما يقوله حتى لا أخسر أحد أصدقائي و هو أمر إستطعت الحفاظ عليه طوال طفولتي و شبابي .
و قد ذكرت "جيرمين" و "فوزي" لأنهم سيكون لهم دور قوى فيما حدث في أمر هذه المغامرة العجيبة و الرحلة السحرية .
لعبنا بالدراجات في الممرات المخصصة لها ثم تركناها و ذهبنا إلى "المبنى الاجتماعي" لنشاهد فيلم السينما المعروض الليلة و كان أحد الأفلام المأخوذة من قصة للكاتبة "أجاثا كريستى" و بعد الفيلم خرجنا لنتناول المشويات و العصائر فى كافتيريا النادي ، و هكذا كانت أيامنا الماضية ، نقضيها بين المذاكرة و اللعب و مقابلة الأصدقاء و مشاهدة الأفلام لا نفكر سوى بأن عملنا الأساسي هو النجاح في الدراسة و عدم إزعاج أهلنا و تنفيذ طلباتهم من الحفاظ على نظافة غرفنا و ملابسنا و الأدب مع الأقارب و المدرسين و المدرسات .
و فى أحد الأيام وجدت أبى يحضر لي و يقل لي :
- مبروك يا "سمير" تيتة وافقت على دخولك "غرفة الأسرار" بشرط تطلع من الخمسة الأوائل السنة دى .
وجدت نفسي أبتسم بشدة و أقول لأبى :
-        حأطلع الأول على الفصل السنة دى إن شاء الله .
-        تبقى كده أبنى اللى أفتخر بيه .
-        أنا اللي أفتخر ب"بابا" اللي سعي لدخولي "غرفة الأسرار".
هنا كان على أن أذاكر بشكل مكثف لأنه كانت هناك منافسة شديدة حول المراكز الأولى في الدراسة و الآن أصبح الأمر أهم من أي شئ أخر فتفوقي سيسمح لى بدخول "غرفة الأسرار" حسبما وعدت جدتي أبى و قراءة "مذكرات جدي" التي وعدتني أمي بها و فعلاً لم أضيع وقت و أصبح ذهابي للنادي يكاد يكون معدوم و نزولي الشارع للوقوف مع الأصدقاء فى الحديقة أمر شبه مستحيل ، و هكذا مر على العام الدراسي لا أفعل شئ غير المذاكرة و إنتهى العام الدراسي و ظهرت النتيجة و كاد قلبي يطير من الفرحة حينما رأيت بنفسي أنني الأول على الفصل و إستلمت الشهادة و ذهبت بها إلى أمي في البيت و التي قالت لي إنها سوف تجلس اليوم معي لأقرأ "مذكرات جدي" و إنها قد قامت بعمل نسخة لي حتى لا تقطع على متعة القراءة إذا لم تكن موجودة و إنها عكفت على نسخ المذكرات على الآلة الكاتبة طوال العام الدراسي لأنها كانت واثقة من تفوقي ، و بدأت أقرا مذكرات جدي و كانت أمي لانشغالها بأبحاثها لا تقرا المذكرات كثيراً و لأنني متفرغ تماماً لقراءة المذكرات وجدت بها العجب العجاب و كان لا بد من مقارنة ما أقراه على الواقع في "غرفة الأسرار" و ذهبت إلى جدتي في اليوم ذاته و معي الشهادة لأطلب منها تنفيذ وعدها و السماح لي بدخول "غرفة الأسرار" و كانت تضحك بشدة لأنني أسميت غرفة جدي "غرفة الأسرار" و تم فتح الغرفة و يا لروعة ما رأيت بها .
و إلى اللقاء في الحلقة القادمة "غرفة الأسرار" .
محمد أحمد خضر
+2 0122 3128543