الأحد، 12 فبراير 2012

ألوان السما السبعة


ألوان السما السبعة
لقد سما الجسد الترابى
من العشق حتى الأفلاك
و  حتى الجبل
بدأ فى الرقص وخف
بن الرومى

كانت هذه الكلمات الجميلة هى التى بدأت مع الأفان تتر"تتر المقدمة" مع ظهور مشاهد للرقص الصوفى و الذى يعرف حالياً برقصة التنورة ، على صوت موسيقى تحملنا إلى أفاق حالمة  تصل بنا لأبعد مدى . و تلك الكلمات الطيبة هى للشاعر الصوفى و مؤسس المولوية "مولانا / جلال الدين بن الرومى" و مولانا هو لقب مثل البك  و الباشا  . و المولوية هى جماعة صوفية و لها بيت فى القاهرة هو "بيت المولوية" و هو ما تم به تصوير العروض الراقصة الموجودة  فى الفيلم ، و هم ينادون بالحب و العشق فى الله و توحد الجسد مع الروح لتصل إلى الحبيب الأعلى ، و ذلك من خلال الرقص ، و هناك اقوال كثيرة للشاعرالصوفى "بن الرومى" نذكر منها "هناك طرق عديدة للوصول إلى الله و قد إخترت منها طريق الرقص و الموسيقى" ، و نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن "المولوية" و "بن الرومى" بل حديثنا سيكون حول فيلم "ألوان السما السبعة" و الذى بدأ بالأبيات الشعرية التى بدأنا بها حديثنا معاً  .

قدمت الفيلم من قبل يوم 7 أكتوبر 2010 لكننى رغبت فى إعادة تقديمه لأننى أشعر فيه بنوع من الرؤي الإنسانية
ألوان السما السبعة
إخراج سعد هنداوى - 2007
بدأ تتر المقدمة بمشاهد شبه رسوم متحركة ، لراقص من راقصى المولوية ، بالملابس الأصلية لراقصى المولوية ، و ليست ملابس التنورة المزركشة بألوانها المبهجة ، و هى ألوان قوس قزح و التى سنفهم إلى ماذا ترمز أثناء تجولنا فى الفيلم ، مع خلفية موسيقى تسمو بالروح و الجسد كما يفعل الراقص المولوى ، ثم نرى مع بداية الفيلم مشاهد الإزدحام فى شارع الأزهر بالقاهرة وقت إقتراب موعد الإفطار فى شهر رمضان .
نشاهد سيدة جميلة "حنان" (ليلى علوى) تترك سيارتها ليركنها لها المنادى و تنزل لتذهب على قدميها إلى أحد المطاعم تتناول الطعام مع صديقتان ، و بعد الإفطار تذهب بهم إلى عرض التنورة ، و تحدث قصة حب تربط بينها و بين "بكر"(فاروق الفيشاوى) راقص التنورة ، و تتداخل الأحداث تعرض لنا خلفية كلاً منهما و أبعاد الشخصيات ، المادية و الإجتماعية و النفسية لكلاً منهما ، و يعرض لنا شخصيات تشترك معهما فى الأحداث مؤثرة فى السياق الدرامى للفيلم ، و الفيلم به رؤية فلسفية عميقة ، سنتجول مع شخصياته من خلال الأحداث ، ونتناول بالتحليل الشخصيات ، ثم نتناول معاً الرؤية الفلسفية ثم نتحدث عن التكنيك السينمائى فى ذلك الفيلم  .

أولاً : القصة  :
كما ذكرنا بدأ الفيلم ب"حنان " تتجه إلى "الحسين" لتناول وجبة الإفطار فى رمضان فى أحد مطاعم الحى العتيق ثم تتوجه مع صديقتان لها إلى حيث"بيت المولوية" حيث راقص التنورة"بكر" و نراها فيما بعد تذهب يومياً لمشاهدة الرقص ، حيث ينبه إبن "بكر" أبيه لذلك الأمر ، و يظن "بكر" أنها معجبة به ،ويرغب فى الدخول فى مغامرة معها ، و سرعان ما تتحول المغامرة إلى عشق وحب بينهما ، و حين يسألها ماذا تعمل تخبره بوضوح إنها (عاهرة) وهنا نجده يرفضها ، على الجانب الأخر نجد علاقة "حنان" بأسرتها ، فقد فقدت الأب و كانت ترغب فى إمتلاك "فانوس" فى "شهر رمضان" ، و لمن يرى الأمر بسيط أقول إن الأمر جد خطير أن تغتال بهجة طفل فى أوقات الفرحة ، فقد كانت ترى الأطفال يحملوا الفوانيس و هى لا تحمل فانوس مثلهم ، و نرى كيف تعطى أمها المال ، و كيف تعودت زوجة أخاها أن تأخذ منها الملابس فى إشارة إلى عطاءها الكامل و نرى رغبتها فى الهجرة لأى بلد فى الخارج لتبدأ حياة جديدة ، بعيدة كل البعد عن ماضيها ، و نرى الشخص الذى يقابلها فى كل سفارة تتجه لها ، هذا الذى يحمل الأمل دائماً برغم أنه تم الإستغناء عنه من الشركة التى كان يعمل بها ، و أراه رمز كبصيص نور و مصدر أمل فى الحياة ، ثم علاقتها بالشخص الذى يتكفل بكل مصاريفها و هو رجل أعمال مسافر دائماً و حين يحضر لمصر فهو يرغب فيها ليقضى معها ليالى العشق بالقاهرة ، و هى تتهرب منه و حين تقابله و يجلسا معاً ، تسأله هل تتزوجنى فيكون رده ضحكات ساخرة ، و تهرب منه ولا تقضى معه الليلة التى يرغب فيها ، و يتصل بها فى نوع من الإستعطاف يقول لها يا ريت تيجى تأخذى هديتك لتكون أخر مرة نتقابل فيها ، و تذهب له و يفتح لها فى منتهى الأدب ، ثم يجعلها تراه فى أحضان عاهرة أخرى ، ليثبت لها إنه كما إشتراها يستطيع شراء الكثيرات غيرها ، و فى اللحظة التى تستلم فيها خطاب الهجرة نجد "بكر" يوافق على الزواج منها ، و هنا نراها تقع فى حيرة بين رغبتها فى الهجرة و بدء حياة جديدة فى مكان جديد لا يعرفها فيه أحد ، و بين رغبتها فى الإرتباط بإنسان أحبته حقاً و أحبها و نسى كل ماضيها ، و وافق أن يبدءا معاً حياة جديدة ، فهو يرغب فى حبها و ليس فيها فقط كأنثى ، فهو يريدها زوجة ، فأى شئ تختاره "حنان" ؟ ، سنرى ذلك معاً فى النهاية .

ثم نعرض للشخصية الثانية فى الفيلم "بكر" ، راقص التنورة ، و هى شخصية برغم بساطتها الظاهرية مركبة أكثر من "حنان نراه فى رقصه الذى إحترفه بشكل برع فيه بشدة ، و حين يتقابل مع "حنان" يقص عليها قصة عشقه لذلك الأمر ، حيث كان يذهب مع أبيه إلى المسجد فى صلاة الجمعة فكره الذهاب للمسجد حيث كان الإمام يذكر دائماً النار فشعر بأنه سيذهب للنار و خاف من الذهاب للمسجد ، وكان يرى أبيه فى وقت المولد يرتدى أشيك الثياب و يذهب لحلقات الذكر فى المولد ، و حين إقترب منه فى إحدى المرات أمسك أبوه يده بقوة و هو فى عالم أخر ليس على الأرض ، وهذا كان وصف "بكر" لذلك الأمر، و قد أحب "بكر" ذلك الموضوع و ساعده عم "إمبابى"(حسن مصطفى) ، الذى أدخله إلى عالم رقصة التنورة ، ثم نراه حين يذهب لأحد المطاعم الشيك مع"حنان" يتشاجر مع شخص لأنه كان ينظر لها ، وحين تعترف له "حنان" بأنها عاهرة يرفض البقاء معها ، حتى يكتشف إنه "عاهر" أكثر منها ، فهى قد دفعتها الظروف لذلك الأمر ، أما هو فقد باع جسده لقاء بعض الحلى الذهبية من إمراة عجوز ، و إن كنت غير مقتنع بإختيار تلك الفنانة فى ذلك الدور فطريقة أداءها أشعرتنى بالتعاطف معها ، و كان يجب على المخرج إختيار شخصية تجعلنى لا أتعاطف معها ، و يكون أداءها أكثر حدة من الأداء الهادئ لتلك الفنانة ، و التى جعلتنى أتعاطف معها ، بل جعلتنى أبحث لها عن أسباب لما تفعله ، ثم نرى علاقته مع زوجته (سوسن بدر) ، و التى إنفصل عنها لمجرد شكه فى تصرفاتها دون وجود دليل ، و علاقته مع عم " إمبابى"(حسن مصطفى) الذى أذاه بشدة حين قال له إنى أنفذ رغباتى و لا أفعل ذلك مع الأحلام (مثلك) ، لنرى بعد ذلك عم "إمبابى"يقف على المسرح و يتوجه بالرقص الصوفى ، و يتحرك حركة دائرية بسيطة فهو لثقل وزنه و عشقه للأكل لا يستطيع الرقص - و هذا رمز لإرتباطه بالأرض و عدم قدرته على السمو حسب الرؤى الصوفية- .
ثم علاقة "بكر" مع إبنه "سعد"(شريف رمزى) ، و الذى يرغب بشدة فى أن يرقص بالتنورة ، و يرفض أبوه ذلك تماماً ، و نرى علاقة الشاب بأمه (سوسن بدر) ، و علاقته بالفتاة صديقته التى لا ترغب سوى فى إمتلاك الذهب ، و حين يراها تقبل شاب أخر تحت السلم و القبل كانت بدء الطريق لإلتحام الأجساد فى المنور، يثور عليها و يضرب الشاب الذى معها و لغباء"سعد" يدير له ظهره و بعد أن كان هو المنتصر إنهزم حيث ضربه لينصرف الشاب بعد أن يلمس جسدها بمعنى لنا لقاء أخر نتمم فيه ما بدأناه ، نراها تقترب من "سعد" ترغب فيه فقد أصبح جسدها تملأه رغبات ترغب فى إطفاءها ، فالأمر بالنسبة لها ليس سوى "كائن حى" تفرغ معه رغباتها ، و نرى صاحب الفرن(أحمد راتب) الذى يظن "سعد" أنه على علاقة بأمه يأتى ليتزوجها فهم يرغبوا فى الحلال ، و الأم غير الفتاة ، فالأم تفعل ما تفعله من نفسية ترغب فى الشعور بأنها ما زالت مرغوبة من الرجال دون فعل ما يشين ، أما الفتاة فتفعل ما تفعله من شبقية لا تنتهى .
الرؤى الفلسفية الخاصة بالفيلم : 
الفيلم ذو رؤية فلسفية عالية و لم يحقق النجاح التجارى الذى يستحقه ، و لكنه على المستوى الفنى فيلم متميز ، و سنتحدث عن الرؤى الفلسفية الخاصة بالفيلم من خلال منظور خاص جداً .
أولاً : كانت هناك تلك الأشعار التى بدأ بها الفيلم و هى تعبر عن التوجه الصوفى إلى الله ، و مهما فعلت فهو سيقبلك ، بمجرد إتجاهك إليه  .
و كذلك نرى فيه قبولك لل"أخر"أى الشخص الذى لا يكون مثلك فأنت لا تعلم ظروفه و اسبابه التى دفعته لهذا ، و لعله إختار "العاهرة" التى يطلق عليها "أقدم مهنة فى التاريخ" لأنها مدانة دائماً . و لا يقبلها احد
ثم كانت الكلمات الطيبة ل"حنان" و التى قالت فيها فى نهاية قوس قزح بيكون الكنز ، و كما نعرف كلنا أنه فى القصص  الأوروبية فى نهاية كل قوس قزح هناك جرة الذهب ، أما قوس قزح فهو التنورة ، التى يحاول بها الشخص السمو بروحه فوق رغباته ، ليحصل على الكنز ، و من الغريب حقاً أن كل من فى الفيلم حصل على الكنز "أمنيته" ، كما لو كانت هناك "عصا سحرية" تحقق لهم أمانيهم .
فنجد "بكر" عاد ل"حنان"  .
و "حنان" هاجرت ليس إلى الخارج و لكن إلى نفسها الحقيقية طفلة لطيفة و سترتبط ب"بكر" ، و تركت ماضيها خلفها .
 "أم سعد" تزوجت لتستقر بحياتها أخيراً .
"سعد" رقص التنورة التى يرغب فيها ، ثم نرى الملاك الحارس"عم إمبابى" يقوم بتعليم "سعد" الرقص بالتنورة فهى حياته التى يقضى فيها جل وقته ، و هو يرغب فى تلقينها للشباب و كما فعل مع "بكر" فهو يفعل مع "سعد"
التكنيك السينمائى للفيلم :
أفلام المخرج "سعد هنداوى" لها سحر خاص ، فهو لا يترك تفصيلة واحدة تمر دون توضيحها ، فهو يبدا ب"أفان تتر" غامض يخلب اللب فيجعلك تشعر بأنك ستطير بالفيلم ، ثم يأخذك لأرض الواقع فى زحام القاهرة قرب إنطلاق مدفع الإفطار فى منطقة "الحسين" فى حى"الأزهر" ، ثم يطير بك إلى ملكوت رقصة التنورة ، ليجعلنا نكتشف شخصيات الفيلم كلها كل ذلك فى أداء متناغم بين الصوت و الصورة و إستخدام المونتاج برقة عالية و إيقاع لا تشعر معه إلا بما يريد أن يصل بك إليه ، و من خلال سيناريو محكم لم يترك تفصيلة واحدة دون تغطيتها ، و كان يتجول بنا فى لوحات تشكيلية رائعة فهو بصحبة مدير فنى مميز وهو الفنان"صلاح مرعى" ، و كان تتر الفنان "عطية أمين" من أروع ما قدم ، فتحية إلى كل صناع تلك القطعة الفنية الرائعة ، فما بين تتر"عطية أمين" وسيناريو"زينب عزيز" وموسيقى"تامر كروان" و تصوير"د. رمسيس مرزوق " و مونتاج "رباب عبد اللطيف" كل هذا التناغم من خلال رؤية مدير فنى متميز هو الفنان الكبير "صلاح مرعى" ، بقيادة المايسترو"سعدهنداوى" .
و لكن أروع شئ كان فى الفيلم لم يكن من عمل صناعه و لكنهم ساهموا فى إظهاره بشكل لم يسبقهم إليه أحد ، و هو"بيت المولوية" ذلك المنزل الذى له قصة كبيرة سنعرض لها فيما بعد والذى تم الإنتهاء من ترميمه منذ فترة و به صالة رقص للمولوية ، أما الملابس الأصلية لرقصة المولوية فهى مثل الفيلم لها رمزية لكل شئ ، فالرداء الأبيض يرمز للكفن و الطاقية البنى العالية ترمز لشاهد القبر ، ليكون الراقص فى رقصه فى محاولة للسمو بالروح الباقية فوق الجسد الفانى لمحاولة الوصول إلى أعلى المراتب  .
أصدقائى لعلنا قمنا معاً بإلقاء الضوء على فيلم قلما يتم صنع مثله الأن بتلك الروح الفنية العالية ، و بالرؤى الفلسفية المتميزة فيه ، تحياتى و نلتقى معاً قريباً فى فيلم أخر .
تحياتى لكم أصدقائى و إلى لقاء قادم . . .

محمد أحمد خضر

+2 0122 3128543