الثلاثاء، 28 فبراير 2012

أمن قومى الحلقة الخامسة بيانات العميل


أمن قومى
الحلقة الخامسة
أمن قومى
الحلقة الخامسة
بيانات العميل

وصلنا إلى مكان هادئ لتهبط بنا السيارة فى جراج تحت الأرض و بعد نزولنا من السيارة ركبنا مصعد ، كان المفروض حسب الطبيعى أن يصعد بنا المصعد لأعلى ، و لكننى شعرت به يهبط لأسفل ، مما يعنى إننا ننزل تحت الأرض ، خرجنا من المصعد كنت أعبر أمام جهاز يكشف كل ما أحمله ، بمجرد عبورى الحاجز الأمنى نظرت خلفى فلم أجد الشخص الذى كان معى ، إلتفت أمامى فوجدت شخص طيب الملامح ينظر لى و هو يبتسم إبتسامة هادئة يقل لى فى صوت مهذب :
-        حمدلله ع السلامة يا "أستاذ نبيل" .
-        الله يسلمك يا أفندم . قلتها و أنا أنظر له فى هدوء .
-        إتفضل معايا على المكتب .
تتبعت خطواته فى هدوء دون أى حديث منى ، و برغم عدم وجود أى شخص فى الممرات التى نسير فيها إلا إننى شعرت أن هناك من يتتبعنى ، كانت هناك كاميرات خفية موزعة فى كل الممرات ، بحيث لا يتم إلتقاء شخصان لا داعى لإلتقاءهما معاً ، حفاظاً على السرية ، و هذا ما علمته بعدها بعدة سنوات حيث كانت إحدى المأموريات التى كلفت بها قيامى بإحضار كاميرات على أعلى درجة من الجودة مع مجموعة من المهندسين الأكفاء فى سلاح المهندسين و المتخصصين فى التكنولوجيا فائقة التقنيات ، و متابعة تركيب تلك الكاميرات معهم فيما بعد .
توجهت مع الشخص المبتسم إلى مكتبه و هناك قدم لى بعض الشاى الأخضر ، فنظرت له مبتسماً فقد كانت إشارة لطيفة يخبرنى بها أن كل المعلومات الخاصة بى لديهم ، فلم يكن "الشاى الأخضر" مشروب منتشر فى ذلك الوقت و القليل من كان يستمتع بشربه و كنت أنا أحدهم ، و بعدها جلس أمامى و لم يجلس على كرسي المكتب بدأ فى الحديث معى قائلاً بهدوء و الإبتسامة لم تفارقه :
-        أنا إسمى "نهاد" ، تعرف إنت فين يا "أستاذ نبيل"؟
-        بيتهيالى يا افندم . احنا تحت الأرض بمسافة كبيرة ، فى جهة أمنية تابعة للجيش ، لا يتم فيها التعامل بالرتب العسكرية .
-        بالظبط ، تحليلك مظبوط ، لكن تفتكر إيه هى الجهة ديه ؟
-        حنستبعد المخابرات العسكرية لإنه بيتم التعامل فيها بالرتب الرسمية ، يبقى ممكن نكون فى المخابرات العامة .
-        تحليلك مظبوط ، يمكن ما قدرتش تحدد المكان بالظبط لإن المكان اللى إحنا فيه غير معروف بشكل عام ، و أغلب الناس بتقول عنه "المخابرات العامة" و ده شئ كويس للحفاظ على السرية ، إحنا فى "هيئة الأمن القومى" يا "أستاذ نبيل" ، و هى جهة تابعة ل"جهازالمخابرات العامة" ، لكنها لها صلاحيات مختلفة عنه ، "جهازالمخابرات العامة" مهمته تأمين "مصر" فى الخارج ، "هيئة الأمن القومى" مهمتها تأمين "مصر" داخلياً عشان كده حتلاقى تعاون كبير بينا و بين "وزارة الداخلية" و حتلاقى ظباط من البوليس معانا هنا ، و بالنسبة لتواجدنا الحالى فعلاً إحنا تحت الأرض بمسافة ، و إحنا هنا مابنتعاملش بالرتب العسكرية بنتعامل بلقب "أستاذ" ، لا فرق بين "جندى" و بين "سيادة اللواء" لإننا كلنا فى خدمة "مصر" ، بالنسبة لوجودك هنا ، فده لأنه تم ترشيحك من سيادة اللواء "مدير إدارة الشئون المعنوية" فى إجتماع على أعلى مستوى لقيادات "الجيش" و "وزارة الحربية" و بعد تحريات مكثفة عنك تمت الموافقة علي إسمك ، و عملنا مجموعة إختبارات عليك لنتأكد من إنك حتوافق على الإشتراك فى عملنا و ألا مش فاكر مقابلة "النقيب سراج" .
و هنا عادت بى الذاكرة لمقابلتى صديقى و زميلى "النقيب سراج" منذ عدة أسابيع فى "نادى الضباط" فى "مصر الجديدة" و الحديث الذى دار بيننا ، و كيف دار الحوار بيننا عن الأحداث الموسفة فى بلدنا من حوادث إرهابية تدمر بلدنا و تكاد تنهى على أى فكر فى وطنا الحبيب "مصر" ، و سؤاله لى كيف لو عرض علىّ عمل شئ لوقف العمليات الإرهابية هل أوافق ؟ ، حتى لو إضطررت لنسيان عملى السينيمائى و البقاء طوال حياتى فى الجيش ؟ و كانت إجابتى له بالموافقة و قلت له إننى من أجل "مصر" أعمل أي شئ ، و قد كرر السؤال بشكل غريب و كنت كل مرة يكرر السؤال أجيب بنفس الإجابة .
هنا قال لى "الأستاذ / نهاد" و هو ينظر لى مبتسماً :
-        إفتكرت بالتأكيد مقابلة "النقيب سراج" فى نادى الظباط" يوم الخميس 9 نوفمبر1995 ؟
-        أيوه "أستاذ نهاد" .
-        "النقيب سراج" ما يعرفش حاجة عن وجودك هنا ، الموضوعات بتاعت شغلنا بتم فى نطاق من السرية العالية جداً ، "سراج" كل اللى يعرفه إنك بتحب السينما و مستنى اليوم اللى ترجعلها لكن الموضوع اللى إتقاله لو تم وضعك فى خيارات بين رجوعك السينما و البقاء فى خدمة البلد عايزين نعرف يكون رده إيه ، و هو اللى إقترح إنه يسئلك عن الموضوع بالشكل ده ، المهم إنت دلوقت لك مطلق الحرية لو مش عايز تكمل معانا ، تقدر تخرج من هنا و ماعليكش أى حرج ، لكن لو قررت تكمل معانا إعرف إننا لا نحمل اى إمتيازات غير شرف خدمة بلدنا ، و ده شرف مش قليل ، بس للى يقدّر ، فلو قلت إنك حتشتغل معانا حأقولك إحنا بنعمل إيه بالظبط ، و لو حبيت تاخد وقت تفكر ، خد وقتك ، و حأنتظر ردك ، و لو موافق حنبدأ الشغل على طول .
-        بالتأكيد انا موافق يا "أستاذ نهاد" ، و أنا تحت أمر "بلدى" على طول ، و يا ريت نبدا الشغل حالاً .
-        طيب ، أول حاجة فى الشغل هى بياناتك ، بمعنى حتقعد فى المكتب ده اللى هو من ساعة ما دخلنا و هو مكتبك و أفتكر خدت بالك إنى ما قعدتش على كرسى المكتب و قعدت قدامك علشان المكتب مكتبك يا "أستاذ نبيل" ، و دلوقتى المطلوب منك تكتب قصة حياتك من يوم ما إتولدت لحد النهاردة ، عندك هنا فى الإدراج أوراق و اقلام ، ترموس شاى أخضر، ترموس شاى برجموت ، ترموس قهوة عربى و تمر من النوع اللى بتفضله و ميه متلجة فى المينى بار و فيه كل المشروبات اللى بتحبها ، و فى الغرفة الملحقة بالمكتب حتلاقى حمام و كنبة مريحة ، و الراديو مظبوط على محطة الإذاعة الأوروبية اللى بتحبها ، كل المطلوب منك تقعد الساعتين دول تكتب قصة حياتك من أول ما إتولدت لحد النهاردة ، إحنا عندنا كل حاجة عنك ، لكن بالتأكيد من الأفضل سماعها من بطلها اللى عاشها خصوصاً إنه حيقدم لنا معلومات أكتر ، خد وقتك "أستاذ نبيل" ، المهم ما تنساش حاجة ، العربية حتاخدك من هنا الساعة تسعة و نص يعنى قدامك ساعتين و نص ، الدقة فى المواعيد هى أهم سمات شغلنا و إحنا عارفين إنك دقيق فى مواعيدك ، حأسيبك دلوقت خد راحتك فى الكتابة و اكتب كل حاجة ، و لما تخلص حتضغط الرقم تسعة فى التليفون ده حأرد عليك ، قال هذا و هو يشير على تليفون موضوع على المكتب .
-         سلام مؤقت "أستاذ نبيل" .
-        مع السلامة "أستاذ نهاد" .
بمجرد خروج "أستاذ نهاد" من غرفة المكتب جلست أكتب ما طٌلب منى كتابته على الفور ، لإننى قد إعتدت عند الخروج أن أخذ وقتى فى الإستعداد بحيث إننى إذا إضطرتنى الظروف للبقاء فترة طويلة خارج المنزل لا أكون متعب من الملابس أو الحذاء أو غيره ، أو أحتاج للحمام أو لتناول مشروبات .
بدأت أكتب قصة حياتى و تذكرت أشياء كنت أظننى نسيتها فبدأت بالكتابة عن اللحظات الأولى لولادتى ، تلك المعلومات التى كانت حديث دائم بين أمى و أبى و جدتى أم أمى و كانوا يتذكروا تلك الأيام التى مرت عليهم ، أيام صعبة و أيام جميلة مرت بها بلادنا.
ولدت فى 23 أكتوبر 1970 بعد أيام قليلة من وفاة "الرئيس الراحل جمال عبد الناصر" و كانت أمى دائماً تقول لى إنها كانت تتمنى أن أحضر و لو يوم واحد فى عهد "الريس" ، كانت تقول لى إن الشعب كله كان بيحبه ، و قرب بلوغى عامى الثالث وقعت أعظم حروب التاريخ الحديث "حرب أكتوبر المجيدة" تحكى لى جدتى أم أبى ، كيف إن والدى عاد بعد حرب 67 وبذلته العسكرية نظيفة و هو فى حالة يرثى لها بسبب الهزيمة جلس صامتاً مهموماً يرفض الحديث مع أى أحد و يرفض تناول الطعام ، و كيف حضرت سيارة من الجيش بعد إسبوع من عودته أخذته عدة أيام و لا يعلم أحد حتى اليوم أين ذهبوا به ، و لكنه عاد و قد بدأ يستعيد طبيعته قبل الحرب . و تحكى لى أيضاً كيف عاد بعد أكتوبر و بذلته العسكرية مليئة بالدماء و هو سعيد بالإنتصار ، و نحن هنا نتحدث عن ملابس الميدان لا بدلة التشريفة المهندمة التى نراها ، و تحكى لى كيف قام البطل "الرئيس السادات" بالأخذ على عاتقه مهمة الحرب و تحرير الأرض ، ثم كيف كان خطابه القوى فى مجلس الشعب ليقول فى قوة إنه على أتم إستعداد ليذهب إلى أبعد مدى ليذهب إلى الكنيست نفسه من أجل السلام ، و أذكر نزول الطائرة المصرية فى مطار "بن جوريون" و كيف تم توزيع القناصة الإسرائيلين فى كل أرجاء المطار خوفاً من أن ينزل مع الرئيس السادات مجموعة من الصاعقة المصرية يقوموا بإغتيال القادة الإسرائليين ، كانت مصر قد سببت رعب ل"إسرائيل" ، و كيف كانت المناورات بين الثعلب الذكى "الرئيس السادات" و بين دهاة الساسة الإسرائيلين"مناحم بيجين" و ساسة "الولايات المتحدة" ، و ما بين هذا و ذاك كان حادث إغتيال الشهيد "يوسف السباعى" الذى هز والدى بشدة لإنه كان يعرفه عن قرب حيث تقابل معه عده مرات ، و تذكر أمى لى حالة والدى حينما قام بتجهيز قوات من الصاعقة للذهاب إلى مطار "لارنكا القبرصى" للثأر لذلك الحادث ، حيث صدرت له الأوامر لتجهيز أشد رجال الصاعقة للذهاب لرد الضربة ، و كان عليه تنفيذ التعليمات مهما كان عدم رضاه عنها ، كانت حياتى عبارة عن وصف لتاريخ مصر الحديث ، و هنا علمت لماذا طلب منى أبى و أمى عدم الإلتحاق بكلية عسكرية حتى لا أتعذب مثلما تعذب هو ، و لكن يبدو إن قدرنا هو خدمة وطننا "مصر" و هو كما قال "الأستاذ نهاد" شرف كبير ، و هو بحق أكبر شرف ، و حادث إغتيال البطل الشهيد الرئيس"أنور السادات" ، و الذى لا زلت اذكر حين كنا نشاهد التلفزيون و كيف إنتهى بث العرض العسكرى بصورة غريبة و كيف كان حال البلد فى وجوم شديد و كانت الأجواء متوترة أذكر حتى اليوم مشهد الجنازة العسكرية للشهيد البطل ، و كيف كان لقائى اثناء الدراسة بالمعهد مع أحد الذين تولوا المناقشة مع قتلة الشهيد و هو "الدكتور محمد عمارة" المفكر الإسلامى و الذين كانوا لن يرتضوا غيره و قال لهم إن فتاوى"شيخ الإسلام إبن تيمية" لا تجوز على حكام هذا العصر من المصريين و كان المقصود بها التتر الغزاة ، ثم تناولت إنتقالى للدراسة فى الإعدادي و الثانوي ، و علاقاتى مع أصدقائى ثم قدمت بعض لمحات عن علاقاتى مع الصديقات فى النادى و المدرسة والمعهد و بعض العلاقات الخارجية العابرة كأن يأتى صديق فيطلب منى أن أخرج معه لإن صديقته ستحضر صديقة ، و هكذا كانت مراحل حياتى تتسم بالإحترام مع الأصدقاء ، حتى حينما حاولت صديقة أن تجرنى إلى علاقة غرامية وضحت لها إننى متفرغ للدراسة و تمارين النادى و الأجازة الصيفية تكون لممارسة عملية فى الخارج لللغة الأجنبية التى أدرسها فى فترة الدراسة ، هكذا مرت حياتى . بالطبع كانت هناك مغامرات لطيفة ، مثل إقتحام "قصر البارون إمبان" فى مصر الجديدة بجوار منزلنا و بعض المناوشات بينى و بين الأصدقاء و الصديقات و لكنها لم تتعد مرحلة الإحترام المتبادل كما لو كنت أعد نفسى لمكانة مميزة .
و قدمت حياتى فى "معهد السينما" كيف تعددت الصداقات و تعرفت على الكثير من أبناء الفنانين و الفنانات ، و المشاريع التى توليتها ، و قصة سفرى الوادى الجديد و كيف كانت تلك الرحلة من أجمل رحلات الدراسة و ما الذى رأيته هناك ، أنهيت كتابة قصة حياتى فى أقل من الوقت المطلوب ، مٌقدماً كل شئ دون أن أهمل أية تفصايل .
بمجرد إنتهائى رفعت سماعة التليفون و ضغطت على الرقم "تسعة" وجدت صوت "الأستاذ نهاد" يقل لى :
-        خلصت يا "أستاذ نبيل"
-        خلصت يا أفندم .
حضر لى و هو يبتسم ببشاشة و هو ما رأيته طوال خدمتى معه بشاشة لا تفارقه ، بحيث تجد أصعب المهام تتحول إلى أسهلها ببشاشة هذه الشخصية الجميلة ، و التى كان لها أكبر أثر فى إنتقالى من "هيئة الأمن القومى" إلى "جهاز المخابرات العامة" أما كيف كان هذا ؟
فهذا ما سنعرفه فى الحلقة القادمة .
                                  "الدرب الأحمر" .

محمد أحمد خضر

+2 0122 3128543