الجمعة، 22 يونيو 2012

عطر فاتنة الصعيد


عطر فاتنة الصعيد
أينما
أينما توجه و أينما حل
يرى التكشيرة على وجوه البشر فالعابسين كثر . . .
يحاول أن يفتش عن بسمة فلا يجدها . . .
مهلاً لقد وجدها و لكن اين كان هذا . . .
هناك فى قطار الصعيد . . .
كانت القصة غريبة و البسمة مصدرها جميل . . .

كان قد ركب القطار المتجه إلى "بنى سويف" ليعطى الرجل ما أعطته إياه "أمه" حسبما أمرت "جدته" قبل وفاتها ، حجز القطار المكيف يظن نفسه ذاهب إلى الأسكندرية حيث جميلات الساحرة المبهجة للنفس العليلة ، لكنه متجه إلى الصعيد و القطار ملئ بالصعايدة و لكن لعجبه أن كانت نسبة الجمال بينهن مرتفعة كان فى نهاية الإسبوع و كان يريد تأخير السفر حتى الغد ليكون السفر مريحاً لكن أمه طلبت منه تنفيذاً للوصية أن يكون السفر اليوم ففعل ، إرتدى ملابس بسيطة للسفر و أخذ الكاب تحسباً للخروج فى شمس الصعيد و معه نظارته التى لا تفارقه بسبب "عيناه" و فى محطة وصوله بالقطار كان الرجل ينتظره ، أخذ الأوراق و دعا له و لأمه و لجدته دعاء طيب و أحضر له شاى صعيدى فاخر و أثناء الحديث سمعا ميكروفون المحطة يقول بتاخر القطار العائد إلى القاهرة نصف ساعة فى تلك اللحظة حضر قطار فسئل بطلنا الرجل الطيب :
-         هو مش ده رايح على "مصر" .
-         أيوه بس ده "الجشاش" .
-         يعنى ايه ؟
-         يعنى حتلاجى اللى راكبين معاك غلابة "ذياتنا" و الجطر يمشى خطوة و يوجف خمسين عجبال ما توصل يكون فات ميعاد وصول الجطر المتكيف بتاعك و يمكن كمان يعدى من جنبك .
-         المهم بيوصل "القاهرة" و بعدين انى غلبان اكتر من "ذياتكم" . و تبادلنا الضحكات معا على طريقة حديثى بلهجته الصعيدية الطيبة .
-         إيوه بيوصل بس ميتا يا "أستاذ محمد" هع هع هع هاااااااع ، ربك العالم يا ولدى .
-         هو مش ليه مواعيد ؟ كل القطرة ليها مواعيد .
-         إلا ديه ، ديه مالهوش مواعيد . بدأت اتوجس خيفة من كلام الرجل لكنه كان قد أصر و أقسم أيمان غليظة ألا يتركنى إلا بعد أن أركب و كنت لا أريد أن أتعبه و قد حضر ليأخذ اشياء طيبة تركتها لهم "جدتى" و لا أريد أن أشعر إننى قد كلفته مقابل واجب علىّ فعله ، فما كان منى إلا أن إستجعت قوتى و قفزت فى القطار و رأيت الرجل يكاد يجرى محاولا اللحاق بالقطار لإثنائى عن فعلتى الطائشة التى لا أدرك عواقبها ، و لكننى بمجرد جلوسى فى القطار فهمت فقد وجدت الناس كلها تتجه أنظارها لى و لما وجدونى لا أهتم بتتبعهم لىّ إنصرف كلاً إلى حاله كنت أفكر هل السبب نظارتى التى تشبه نظارات رجال "مباحث التموين" قلتها و انا أبتسم لنفسى فلما وجدت الأنظار عادت لتحملق فىّ بدأت أعبس و أتجهم فى وجه الناظرين لىّ ، فلا يلبس إلا أن يعود إلى ما يفعلوه البعض ينشغل فى قراءة الجريدة و البعض النظر إلى اللاشئ و متابعة عد عواميد التلغراف و قد إتجه النظر لى مرة اخرى حينما رن الموبيل الخاص بى و وقتها لم يكن الموبيل منتشر فقد كان سعر الخط مرتفع و الإشتراك الشهرى عالى و لا يوجد نظام الكارت يعنى ما فيش "إشترى خط و بعشرين جنيه بقا معاك موبيل" و كانت أسعار الأجهزة مرتفعة جداً حتى كان الجهاز وقتها بحوالى ألفين و خمسميت جنيه جابلى دلوقت تلاتين جنيه المهم فلسنا فى حديث خسائر التليفون المحمول ، سمعت صوت الطرف الأخر و الذى لم يكن إلا أبى يطمئن علىّ و لأننى لا أحب أن يعرف من حولى مع من أتكلم و خصوصاً حينما يكون حولى طفوليين يكادوا أن يلتصقوا فى سماعة التليفون الأرضى وقتها لعدم إنتشار الموبيل ليعرف إنت بتكلم مين ثم يبتسم فى بلاهة موحية إنه "أنا مش فاهم أى حاجة" المهم فقد إعتدت أن أرد على أبى و أمى بكلمة "أيوه يا أفندم" و بذلك قلت لأبى :
-         "أيوه يا أفندم خلصت المأمورية تمام على أكمل وجه و راجع مصر ف القطر" .
-         و كما لو كانت تلك هى الكلمات سحرية ، فقد فؤجئت بمن حولى يبتسموا فى وجهى بدل العبوس و يحاولوا التملق لى بعد إنتهاء المكالمة ، فقام الشخص الذى كان يتفحص فى وجهى منذ قليل بوجهه العابس بالإبتسام و تقديم الجريدة لى لأقرأها و قام الأخر بإحضار "بائع الكازوزة" كما ناداه و قاله :
-         بسرعة يا وله هات لسعادة الباشا "كازوزة متميزة" و اغسلها كويس يا أبن الارندلى ثم أردف قائلاً :
-         الولاد دول يا "معالى الباشا" لو ما عاملتهمش كده يتمرعوا ، الله يكون فى عون "معاليك" . فى نفس اللحظة وجدت شخص ثالث يقدم لى سيجارة و يحاول أن يشعلها لى فلما أفهمته إننى قد أقلعت عن التدخين قال لى :
-         أكيد لازم "سعادتك" تحافظ على صحتك عشان المأموريات اللى عندك .
-         فى حين توجه الضخم ليبعد طلبة الثانوى الذين كانوا يجلسون حولنا متلفظين بألفاظ أقل ما يقال عنها إنها نابية . كنت فى موقف لا أحسد عليه كان على التخلص من ذلك الموقف الذى وضعتنى فيه األقدار قبل أن تتحول العزومات إلى طلبات و محاولات لمعرفة أين أعمل ، و لو حدث ذلك أظن أقل ما سيحدث لى هو إلقائى من القطار مع"تطفيحى الكازوزة" و تركيب "الجريدة" لى على هيئة "طرطور" و إحضار الشباب يمتعونى بالألفاظ و لكن بدلا من توجيهها لبعضهم البعض سيكون توجيهها لى شخصياً و سيكون من حظى أن ذلك الذى وضع حذاءه بقدمه بجوارى مما يبعث فى المكان رائحة غير طبيعية سيخلع حذاءه لتنبعث منه الروائح غير معلومة المصدر لأمتاعى بشدة ، فى تلك اللحظة وصلتنى رسالة فأمسكت الموبيل لأنظر للرسالة و كانت من صديقة فى القاهرة تطمئن على وقتها إستغللت صوت الرسالة التى يشبه صوت الشفرة التى يتم إرسالها عبر اللاسلكى فى الأفلام البوليسية و أفلام المخابرات و كانت هذه النغمة المنتشرة وقتها و لم يكن موجود غيرها و قد صادف أن إتصلت بى "أمى" بعد الرسالة مباشرة و كنت أقل لها :
-         أيوه يا أفندم المأمورية تمت على خير و بلغت "معالى الباشا" بكده كنت أقصد أبى . كنت من داخلى أكاد انفجر من الضحك لأننى أقصد محاولة إنهاء ذلك الموقف الغريب بخدعة دون أن أكذب فأنا لا أكذب إطلاقاً . بعدها أنهت أمى المكالمة و لكن لا أحد يعلم ذلك غيرى ، فقمت بالضغط ضغطة بسيطة غير ملحوظة أغلقت بها الموبيل فقد كانت خطتى تسير على أن يكون الموبيل مغلق حتى لا تأتى مكالمة تدمر كل ما خططت له فقلت كما لو كنت أستكمل الحديث مع الطرف الأخر :
-         أيوه يا أفندم ، يعنى هو موجود فى القطر دلوقتى ، معاه سلاح . قلتها و أنا أنظر لتأثير الكلمة على المحيطين و قد كان لقولى لها عظيم الأثر فقد بدا الإنزعاج على المحيطين فقد تحولت رحلتهم إلى "سفرة الموت" و قد كدت أنفجر ضاحكاً من مشهد وجوم وجوههم و إحمرار وجوه البعض و إرتجاف يد البعض الأخر و إرتطام الأرجل لأخرين بينما قذف أحدهم الشاى الساخن الذى يشربه فى وجه من يجلس أمامه و بعدما تركت الأثار التى ارغب فيها فى نفوس هؤلاء القوم بدأت اتحسس "الفست" الذى أرتديه و الذى يبدو مخصص لرحلات الصيد و إمعاناً فى التخفى أغلقت "الفست" فظهر جسدى رياضى بلا ضخامة مما زاد من إعجاب الناس بذلك الشخص المجهول و بدل الإبتسامة قطّبت وجهى سانداً وجهى على يدى مظهراً التفكير العميق فى حين كان داخلى يقول لى فى حوار :
-         هاه و الخطوة الجاية إيه ؟
-         الخطوة الجاية ترك ذلك الجزء من القطار و الذهاب إلى مكان أخر من خلال مكالمة جديدة أفتعلها ، و فعلاً إخرجت الموبيل و رفعت الإيريال الخاص به و الذى أظنه كان منظر فقط ليس له علاقة بتقوية الإشارة ثم قلت بعد فترة كمنتظر للرد :
-         أيوه يا "معالى الباشا" أنا حأغير العربية و أروح عربيته هو متنكر أنا عارف بس حأعرفه ، معاليك عارف العملية ديه بتاعتى من زمان من أيام "عملية المرحومة" كنت أقصد بكلامى و الذى لا اكذب فيه حتى بينى و بين نفسى "عملية جدتى" و التى حضرت لأعطى ما تركته لمن تركته ، المهم وقفت و وجدت من حولى كأنهم فجأة يتحولوا إلى "السيد محسن ممتاز" فى "رأفت الهجان" و يقولوا فى نفس واحد :
-         مصر امانة فى رقبتك يا "ليفى" يا "رأفت" يووه ، "يا اسمك ايه" . تحركت من العربة أتنفس الصعداء تدور فى "قلبى و عقلى و روحى" أغنية "لقد نجا . لقد نجا . لقد نجا" إخترت العربة التى بعد عربتى بعربتان جلست و جعلت ظهرى لباب الدخول من عربتى و خلعت الفست تحسباً لمرور أحد من "عربة العابسين" كان مقعدى الذى جلست عليه خالى و كذلك المقعد الذى امامى و قد وضعت "الموبيل" و "النظارة" و "الكاب" فى الفست فلم يعد معى شئ إلا و وضعته فى "الفست" كان على المقاعد التى فى الناحية الأخرى رجل و زوجته معهم "وابورجاز" و خمسة أطفال ، أربع أولاد و فتاة صغيرة و بدأ الرجل يوزع الشاى على الولاد و حينها قام و أعطانى كوبه الخاص و قال لى :
-         يا "بيه" إحنا غلابة بس نضاف ، و "ربونا" أمرنا بالنضافة . نظرت للرجل و قمت لأتناول من كوب الشاى و انا اقل له :
-         واضح يا ريسنا إنتم ناس نضيفة من غير ما تقول لقد كان الرجل برغم بساطة ملبسة و ملبس زوجته و أطفاله تبدو عليهم النضافة ، بدأت أنظر لأعمدة التلغراف أحاول التفكير فى قصصى الماضية و حياتى الأتية فى تلك اللحظة وجدت أنثى رقيقة جميلة تتابعنى تنظر فى عينى مباشرة بإبتسامة رائعة ، أنثى غير من عرفت لا تنظر لى لحاجة فى نفسها ترغب فيها منى ، بل أنثى تتابع ذلك الكائن الغريب "أنا" الذى تحدث مع "الرجل ذو الجلباب البسيط" بلطف و أخذ منه كوب الشاى ببساطة و شرب الشاى بإستمتاع دون ان ينظر بشكل سئ لهم نظرت لها مبتسماً فزادت إبتسامتها كانت تمتلك وجه أسمر جميل و شعر بنى فاتح ناعم و عينان خضراوان من اروع ما رأيت لم تكن تلك العيون الراغبة فى شئ منك و بمجرد أن تأخذه تلقيك بإهمال فى قارعة الطريق و هى تصرخ "اللى بعده" بل عيون لا تطلب مقابل البسمة حتى لا تطالبك ببسمة مثلها هى ترغب فى أن تنظر لك فقط لم أستطع غير الإبتسام لها فزادت من بسمتها ، وقتها كانت معى كاميرا بسيطة أضعها فى الفست أخرجتها و إلتقطت لتلك الرائعة عدة صور و اخرجت من أحد جيوب الفست عطر احضرته من خارج مصر "الورد الملكى" بحثت عنه كثيراً حو لم استطع العثور عليه المهم أخرجت ذلك العطر وضعت لها نقطة صغيرة على "رست معصمها" ظلت تتنسمه طوال الرحلة و تجعل من حولنا يتنسموه أخرجت من جيبى الحلوى التى لا تفارق جيبى و اعطيتها فأمسكتها و بدأت توزع على القريبين منا لقد تحولت رحلتى إلى متعة غير عادية و بدأت اتحدث معها فعرفت ماذا تدرس و ماذا تفعل فى الحياة حتى إقترب القطار من "محطة مصر" فودعتنى بقبلة على خدى و نزلت مع اسرتها و عيناها متعلقتان بى حتى إنها فى إلتفافها لى إصطدمت بسيدة أضعاف حجم جميلتى فما كان من ذلك الكائن المتوحش إلا أن نهر الجميلة فى وحشية تذكرنى بوحشية "هولاكو خان" الذى يدمر كل من حوله و لا يعنيه غير كيانه ، بمجرد خروجى من محطة القطار ذهبت إلى المنزل لم اقص على أهلى اى شئ مما حدث دخلت أخدت دش و إستريحت بالليل أرسلت لتحميض الفيلم كان باقى فيه صورتين بعد ذلك جعلت أبى و أمى يشاهدو الصور و كانت تلك الصور لحفلات مختلفة و صور خاصة بسيارتى الجديدة و كانت أن رأت أمى صور فاتنة الصعيد فقالت لى :
-         مين ديه "الله دي عنيها خضرا .
كانت الفاتنة ذات الأعين الخضراء و البسمة التى عطرت الأجواء إبنة الرجل الطيب الذى اعطانى الشاى بلا حاجة منى بل فقط لكرم أخلاقه فقد ورثت الإبنة جمال نفس الأب فى جمالها الرقيق كل ما أتمناه لها و قد صارت شابة الأن ألا تصطدم بأمثال من إصطدمت بها
"شبيهة هولاكو خان قاهر المغول و محطم ممالك الشمال" . . . .
إنتهت قصة الفاتنة لكنها لم تنتهى معى لأننى بعد بضع سنوات قادتنى الأقدار إلى ركوب "ميكروباص العتبة" للذهاب إلى مشوار خاص بأحد معارفى و بعد ركوبى الميكروباص ركب شخصان خلفى و كانا مشغولان فلم ينتبها لى و ظلا يتحدثا فى السياسة فترة كبيرة و كان صوتهم عالى و انا مصدع و طهقان فإلتفت لأقل لهما أن يخفضا صوتهما فوجدت احدهما احد ركاب قطار الصعيد ذلك الذى دعى الداعى ليحضر لى "الكازوزة" و لكن من معه لم يصمت و لم يهتم بى فصرخ به من كان معه ان يخرس و صاح بالسائق أن يتوقف لينزل كنا فى وسط الطريق الدائرى فنداه صديقه يقل له بعد ان نزل :
-         طيب و الحزب .
-         ماليش فى الأحزاب و مش بأحب السياسة و إنطلق يهرول فى الطريق و كنت أنا أضحك فى سرى بشكل غير طبيعى . . .
تحياتى لكم أصدقائى و إلى لقاء قادم . . .
                                 
محمد أحمد خضر

+2 0122 3128543